Saturday, May 22, 2010

طلعت حرب ..غمرة سكاكيني ....




قبل ان تعبر الشارع الملئ بالعربات امام جراج الاوبرا ستستوقفك ذات يوم سيدة في الستين من عمرها ..ترتدي طرحة بيضاء تنسدل على كتفيها ونصفها العلوي ...وجيبة سوداء... وتحمل طنا من الهموم والفقر ..ستقول لك من فضلك يابني عديني الناحية التانية ..ستجد معها فتاة أخرى ربما في الخامسة او الثلاثين ترتدي جلباب اسود لون الكأبة المخيمة في سماء مصر المحروسة ...سيمسك كلا منهما كتفيك او يداك لتعبر بهما الطريق ...ثم تفترقا ودعوات تنطلق هنا وهناك لتسمع من اعماق الاسفلت ان هناك حزنا داخل هذه الارض ..............وفرحا انك علمت الحقيقة ..حقيقة ان الناس في بلدي ما زل طيبون رغم ما يحدث فيهم ليل نهار ...يطلبوا مساعدة بعضهم وتنهال عليهم تلك المساعدات فيما يطلق عليه "جدعنة" ولا نطلق عليه نحن شيئا سوى انه الواجب الذي لابد وأن يحدث

هو نفس المشهد في عصرية .... يوم من ايام مايو الحار البارد ....لان الطقس في بلادنا لم يعد له شخصية مستقلة ...مجرد مزيج من الجنون ... تقف سيدة في شارع غمرة بعد كوبري الشرابية ومحلات عصير القصب ومعها ورقة مطوية ...تعتقد انها ستشحت منك لكن عيناك تقترب منها لتعلم انها تقول كلمات اخرى : " يابني ممكن تشيلني الشنطة " بلا اي مقدمات ستفعل هذا وتظل هي تباركك بكلماتها " الهي ما يوقعك في ضيقة الهي ينجيك يابني من كل شر ربنا يباركلك ياحبيبي ولا تنضام ابدا "


اثناء ذهابك صباحا للعمل تقع عيناك على مشهد كوني حارق لدماء اكثر الناس صلابة وبرود اعصاب اما اللي معندوش دم فمش هيهمه ويتضمن المشهد سيدة في سن جدتك او ربما خالتك الكبرى نائمة بجانب قاعدة شجرة بجانب احد افران منطقة السكاكيني وهي في وضع الميت ملقاة هكذا وامامها شئلة المناديل التي تبيعها او لا تبيعها كل يوم ...الشمس تغرق كل قطعة في ملابسها وجلدها وسني عمرها ...كأتها تبكي وهي نائمة ....تتحرك وانت تطلق ضحكة ساخرة من العدالة الاجتماعية في عهدنا السعيد وثورتنا المباركة .

ولكي تكتمل المعادلة لابد أن تمر بتجربة أخرى ايغالا في احراق دمك وتنوير عقلك بواقعنا الأغر ....تعالوا معي نجلس عشرة اشهر في محيط مقاهي وكافيهات وسط البلد لنرصد جموع الشخصيات المسرحية التي يجمعها هذا المكان وتتلخص معظمها في عدة انماط الأول هو نموذج الثري الذي لا يجد ما يفعله سوى مسك مجموعة من الاوراق المالية او الفيزا كارت في يده صباحا ليحتار فيما سينفقها ....بالطبع مامي وبابي اللذين يقومان في الفيلم بدور الممول اليومي الشهري السنوي المئوي ...لا يوجهانه فيما سيصرف هذه الأموال ....فهما لا يبغيان ارهاقة بمثل هذه الديكتاتورية في الرأي ...

تظهر الفجوة الطبقية في بلادنا المعظمة كالنضارة المعظمة بتاعت زمان في ان نفس المكان الذي تجد فيه بائعة المناديل ملقاة بحزن وغيبوبة في عصير الوجود الفقير بالسكاكيني حتى الموت ستجد شوكت باشا الارناؤطي الذي لا يختلف عن كبار الملاك وأمراء بل ومماليك ما قبل الثورات وما قبل العصور ...عالمان مختلفان مر بهما عقلي وما زال يمر وما زالت تحترق دمائي كأبة وسخرية على مثل هذه الأمور .....مشكلة بائعة المناديل انها ستموت بالغيبوبة لعدم دخول طعام لفمها منذ خمس عشر يوما ومشكلة شوكت باشا ان زجاجة الريد واين البولندي الاصلي التي راهن اصدقائه ان يكسبها تحطمت خلال استيقاظه صباحا من سهرة بكينج مريوط ...أو أن الكلبة المدللة التي اشتراها من تاجر عاديات سويسري في نويبع بأربعة عشر الف دولار منذ اأام تاهت في احراش الزمالك ولا احد يعلم مصيرها المسكينة ....وكأننا في فيلم تقليد ساخر لافلام حسين صدقي لكن المساحة الزمنية اكبر فهي تشمل عمرك كله ....

عالمان ..... فقير جدا ...ثري جدا ....اناس تموت لأهون الاسباب واناس تحزن لأتفه الاسباب ...استهلاكيون في قمة الشراهة ..ومنتجون لا يجدون قوت ثوانيهم وليس حتى يومهم ...ينتهي بهم الحال في مقلب نفايات ..... هكذا كل يوم تجد هؤلاء وهؤلاء وتندهش او تضحك او تسب وتلعن .... وتحترق دمائك ما بين ضحكات ثري سكير في شارع طلعت حرب وبين شهقة موت أطلقتها بائعة المناديل وجلدها المحترق تحت شمس غمرة والسكاكيني والموسكي ودرب المحاريق .






No comments: